( نهاية الأحلام غالباً ما تكون أليمة )
ليلةٌ تشرينيةٌ غامضة
أوصدَ البابَ الخشبيّ بعد مغادرة زوجته مع أولادها إلى جارتها ,وساقته قدماه إلى الوادي ,بينما أمسكت يداه بالمعول الذي حفر في الآونة العجوزة من عمره اليأسَ في قلبه أكثر مما حفر في أرض الوادي التي استقبلت حجارة الجبل على أديمها المتعطش إلى حربٍ تنهي الصخور التي استقبلتها بالقسر , ولكن ما السبيل إلى ذلك ؟ هو الذي طرحه عبد الرحمن على النفس التي تبدّد لونها من جديد عند رؤية الصخور تلتهم الأرض ..,وتلقي بأحمالها عليها .
ألقى معولَه على الأرض ,واستلقى هو الأخر جانباً في حين أخذت ريح تشرينية تصفعه صفعات متناوبةً ,ولكن ريح الصمت كانت هي الأقوى حين طغت عليه ,وضمت ريح تشرين التي بدتْ كأنها تحثّه وتحرضه على العمل في داخلها . ظلّ مستلقياً إلى أن أقبلت زوجته ,وقد أحضرت طعامَ الغداء ,جلس عبد الرحمن مقرفصاً وقال:متى سنخرج من هذه الضائقة التي وقعت سيفاً مسلطاً فوق رؤوسنا .
ردّت زوجته بضحكتها المعهودة : أنا معك ,ولكن تفاءل بالخير تناله ,فلا شكّ بأن غيوم الخير ستقدم إلينا ,وأما الآن فأريد العودة إلى البيت ,فهل تريد شيئاً ؟
أجاب بصوت خافت : لا ....
لم تكن كلمات عبد الرحمن مع زوجته إلا محاولةٌ للتنفيس و التخفيف عن نفسه المتشحة بصراعٍ دارت رحى حربه بين حنايا الصدر المتعبة , صراع الصخور ,ونزع طغيانها عن الأرض ولكن ما ذا يفعل معول ,وساعدٌ بات ضعيفاً بين حجارة بيضاء وزرقاء ولم يبقَ مكان تنثر فيه حبّات القمح إلا بين الصخور التي اغتصبت الأرض ؟
أخذ عبد الرحمن يجمع قواه ويلملم شتاتها في لحظة إشراق حطّت رحالها بين أعماق نفسه ,دفع معوله محاولاً اقتلاع الصخرة الواقعة في منتصف أرضه ,ولكنّ المعول أعلن استسلامه متحطماً أمامها ,أصابت موجة الغضب عبد الرحمن ,وأضرمت ناراً زادت اتقاداً فوق اتقاد
عاود حواره مع نفسه : كيف السبيل للخروج ...؟ و كيف أقتلع هذه الصخور .؟
بقيت النفس هي الأخرى عاجزةً عن الحلّ ,عن الإجابة ,وبقي ذلك السؤال قابعاً في أعماق نفسه بقي لغزاً يطرق بابها دون أي جواب .
لم يستطع عبد الرحمن أن يأكل ,ولم يكشف عن الزوادة وما فيها .التقط معوله الذي تحطم أمام الصخور التي لم تتفدر ,والزوادة التي بقيت كما هي مغلقةً ,أصابه الفتور ,فعاود أدراجه إلى قريته الساكنة كغيمة خرساء ,زاغ عن الطريق منعطفاً إلى منزله في وقتٍ سجّرتْ فيه زوجته التنورَ لتصنعَ الخبزَ لزوجها وأولادها .
فتح فمه ليكلمها ,لكنه تلجلج في الكلام ,واتخذ من جدار المنزل مسنداً لرأسه وظهره ,أصابه القنوط ,ولابدّ من عمل يخرجه من مأزقه ,أسدفت عيناه قليلاً عن عالمه الذي بد مشحوناً بضوضاء غريبة جعلتْ نومه ويقظته على كفيّها ,في حين أقبلت زوجته حاملة رغف الخبز على قطعة قماش محشوة بثياب بالية وبقطنٍ ,مستديرة الشكل تستعملها في لصق العجين على جوانب التنور .
وضعت الخبز جانباً ,وحدّقت في وجه زوجها المصبوغ بالسّهد الذي ساخ بين تفاصيل وجهه وتتابعت نظراتها إليه كأنها لم تلمحه مذُّ زمن ,أعجبها منظره وهو يُسند ظهره ورأسه على الجدار ,لم تشأْ أن توقظه في البداية ,غير أن يدها مُدّت بلطفٍ عل كتفه ,ونادته بصوت خافت : عبد الرحمن استيقظ , الشمس أوشكت أن تغيب ,وكأنك لا تحسّ بما حولك .
فتح عينيه محدّقاً في زوجته قائلاً : قبل كلّ شيء..هل انتهيتِ من صنع الخبز
أجابت :ألا تنظر إنه إلى جانبك .
أجاب بكلمات حزينة : الحقّ معك .لكنّه التعبُ ,والمعولُ انكسر ,والزوادةُ لم تُفتح .
لم تنبس الزوجة بأيّ كلمة ,ودخلت إلى المطبخ حاملةً الخبز بعد أن ناولته رغيفاً , وقد بقي قابعاً مكانه يسترط رغيف الخبز بهدوء حتى أنهاه ,اتكأ على يديه ,وقف منتصباً وقد أحسّ بالبرد ينسلّ إلى جسده نادى زوجته قائلاً : سأتجه إلى جارنا عزيز لأقرض منه بعض المال ,فلقد نفد المال مني . لحَبَ الطريق قاصداً جاره عزيز ,منسلّاً بين خيوط الليل الذس أسدف ,اقترب من منزل جاره وهو يلهث لهاثاً خفيفاً فرأى عزيزاً أمام البيت م في ساحة الدّار ,فألقى عليه تحية المساء ,و دخل موضوعه دون استئذان دون مقدمات شاكياً حالته ,بيدَ أنّ عزيزاً أعلن إفلاسه وليس لديه من المال إلا القليل الذي تحتاجه أسرته .
استدار عبد الرحمن على عَقِبيه ,وانكفأ عائداً إلى منزله ,وحارت عيناه عندئذٍ إلى أين ستنظر وقدماه في أيّ مكانٍ ستثبت ,ورأسه على أي وسادةٍ سيرتاح . فتح باب المنزل دون استئذان وجد زوجته بجانب أولاده فقال: أوقدي السراج في غرفتنا أريد أن أنام .
قامتْ زوجته بما أمرها به ,وولج الغرفة دون أي كلام حول ما حدث معه مع جاره , أغلقت باب الغرفة بهدوء متجهةً إلى المطبخ لتكمل ما بقي من عمل ,وبقيت إلى انتهت من عملها ثمّ عادت إلى حجرةِ أولادها فربما يبكي أحدهم أو يطلب حاجةً ,أدرات نظرها تجاه غرفة زوجها فرأت بأن السراج مازال مضاءً فسألت نفسها :هل من الممكن أن يكون عبد الرحمن مستيقظاً ؟ لا ربما لم ينم فقد يكون هناك أمرٌ ما يشغله ,وفي ظلّ هذا التساؤل تسمعُ صوتاً غريباً يخرج من غرفته وانقطع هذا الصوت فجأةً ,أصابها العجب والاستغراب ,والأغرب سرّ انقطاع الصوت بتلك السرعة . لم تستطع الانتظار في تلك الليلة ,قادتها قدماها المرتجفتان إلى الغرفة ,قرعت الباب بهدوء في البداية ,فلم تسمع ردّاً ,زادت من قرعاتها على الباب لكن دون فائدة ,فما كان منها إلا دفعت الباب بسرعة فلم تلمح عينيها إلا حبلاً مسدولاً من حلقة في سقف الغرفة كان زوجها قد ثبته بشكل محكم ,ووضع كرسياً خشبياً ليصعد إليه ,واضعاً نفسه في دائرة الحبل التي صنعها بيديه ,مودّعاً حياته بلحظة إبعاد رجليه عن الكرسي .
صرخت زوجته صرخةً مدوية اخترقت جدران المنزل الصغير قاذفةً بحزنً عميق جديدٍ رددت صداه الجدران مخلّفةً وراءها أحزاناً قديمةً لتستقبلَ آلاماً جديدةً ,ليظلّ ذلك السبب غامضاً عن تلك النهاية الغامضة في تلك الليلة التشرينية الغامضة .
فراس حمّود
الشندخة 2005